بقلم: أنس بن فيصل الحجي
نفط سورية ينطوي على دم ودموع. هو دم لاختلاط الدم بالنفط في تراب الحقول التي حررها الثوار، ودموع لسرقته من قبل البعض في المناطق المحررة أو لمحاولتهم تصفيته بطرق قاتلة.
كان ثمة مهندس ناجح في مقتبل العمر يملك مستقبلاً واعداً. وكان يضحك عندما ينهره زملاؤه كلما غسل يديه ووجهه بالماء المستخرج من بئر نفط والمجمع في حفرة قرب البئر. كان يقول: هو ماء مثل غيره. لكن بعد بضعة أشهر مات فجأة بعدما التهمه السرطان. لم يشكل الخبر مفاجأة لزملاء حذروه من استخدام الماء المستخرج من بئر نفط، فهذا الماء يحتوي على مواد مشعة بنسبة كافية لقتل الناس. لا نعرف ماذا حصل للناس المحيطين به من أفراد عائلته وأصدقائه، فالدراسات ترجّح أنهم تعرضوا إلى إشعاعات مسببة للـسرطان بعد تعرضه هو إليها.
وهكذا يعرّض سارقو النفط السوري من الآبار المحررة، والمتاجرون به، أنفسهم وعائلاتهم وأصدقائهم لخطر. فالنفط مليء بالغازات والمواد السامة، لكن بعض الحقول في دير الزور مليئة أيضاً بالمواد المشعة القاتلة التي ينتقل بعضها في الهواء، وبعضها باللمس المباشر للماء أو التربة أو الأدوات والمعدات.
إن وجود مواد مشعة في مستخرجات آبار النفط أمر معروف عالمياً، إلا أن نسبة تركزها في بعض الحقول التي حررها الثوار في سورية عالية جداً، إلى درجة أن هيئة الطاقة الذرية السورية أجرت، بمساعدة خبراء محليين وأجانب، دراسات لمعرفة مستوى الإشعاعات في هذه الحقول، والذي تجاوز الحد المقبول بمئات الأضعاف. وعملت شركات النفط المعنية لتنقية التربة في مناطق معينة بسبب نسبة الإشعاعات العالية جداً، كما نشرت الهيئة كتيباً عن الإشعاعات الذرية في الحقول النفطية وطرق الحماية منها ومعالجتها.
وتشير وكالة حماية البيئة الأميركية إلى احتمال إصابة العاملين في بعض حقول النفط التي تحتوي مواد مشعة، أو القاطنين قربها، بسرطان الرئة بسبب استنشاق مادة الرادون، كما تشير إلى أن الهواء يمكنه نقل الرادون المشع إلى مسافات تتجاوز 100 كيلومتر من موقع الحفر. وتشير إلى أنواع أخرى من السرطان الذي ينتج من لمس الماء الملوث أو شربه، من الأنهار أو آبار الماء القريبة من حقول النفط الملوثة. لهذا فالعمال والخبراء المتخصصون في تنقية التربة في بعض الأماكن التي تعرضت إلى إشعاعات بسبب النفط، يلبسون الملابس نفسها التي يلبسها الخبراء المتخصصون في فحص المواد النووية.
وتنتج الإشعاعات في حقول النفط في شكل طبيعي عن تفاعل الماء والصخور، ما يؤدي إلى انحلال اليورانيوم والراديوم والرادون في الماء. لذلك فالماء الموجود في بعض مكامن النفط، كما هي الحال في منطقة دير الزور، يحتوي على كمية عالية من هذه المواد المشعة. ولأن استخراج النفط غير ممكن من دون استخراج هذا الماء معه، فالماء الملوث يجب أن يُعاد ضخه في الأعماق، وفق قوانين الدول المتقدمة. لكن جشع شركات نفط عالمية، وجهل مسؤولين محللين، وانتشار الفساد الإداري، شجعت على التخلص من هذا الماء بسكبه على الأرض أو تجميعه في بحيرات صغيرة، ما ساهم في تلويث التربة والمياه الجوفية. ونظراً إلى حدوث ذلك في سورية، أجبِرت في السنوات الماضية شركات النفط على تنقية التربة في بعض الحقول بسبب الارتفاع الشديد في نسبة الإشعاعات فيها.
هذا الماء قاتل وسيستمر في القتل إلى الأبد، أو حتى إنفاق ملايين الدولارات لتنقية التربة. وهذه المرة لن تدفع شركات النفط فاتورة التنقية لأنها غير مسؤولة عما يحدث، بل سيدفعها الشعب السوري كله. وبهذا سيدفع الشعب السوري ثمن طغيان آل الأسد من جهة، وثمن جشع سارقي النفط في الحقول المحررة من جهة أخرى. وإذا كان الناس يدفعون الآن ثمن سكوتهم عن طغيان آل الأسد خلال السنوات الـ 40 الماضية، فسيدفعون ثمن سكوتهم عن سارقي النفط ونشرهم الإشعاعات المميتة لمئات السنين ربما.
تشير الدراسات إلى أن المضخات والأنابيب التي تنقل هذه المياه تتلوث أيضاً إذ تتراكم الترسبات المشعة عليها. هل هذه مشكلة بالنسبة إلى السورين؟ طبعاً، فسارقو النفط الذي يتعاملون مع هذه الأنابيب والمضخات تعرضوا إلى إشعاعات، والذين سرقوا الأنابيب والمضخات والأنابيب لبيعها في سوق الخردة في مدن وقرى مختلفة تعرضوا إلى إشعاعات، وحمل الجميع هذا الإشعاعات إلى منازلهم وأطفالهم، كما تلوثت محلات بيع الخردة وكل من يشتري هذه الأنابيب والمضخات.
إنه النفط. ينتقم من الذين شاركوا في إهانته! إن استخراج النفط في هذه الآبار يتطلب خبرات ومهارات معينة ومراقبة مستمرة لحماية الإنسان والبيئة، وإذا لم يسيطر الجيش الحر أو حكومة غسان هيتو على الحقول فالحقول ستنتقم، وسيخسر الشعب السوري الناس والمال والنفط!